التحيّز للخسارة (Loss Aversion): كيف يؤثر على قرارات المستثمرين؟
يواجه المستثمرون يوميًا قرارات مالية مليئة بالمخاطرة، ولكن الغريب أن الخوف من الخسارة له تأثير أقوى بكثير من الرغبة في الربح. هذه الظاهرة تُعرف في علم النفس السلوكي باسم التحيّز للخسارة (Loss Aversion)، وتُعد من أقوى الانحيازات التي تُشكّل سلوك المتداول وتُضعف من فعالية قراراته الاستثمارية.
في هذا المقال، سنستعرض معنى التحيّز للخسارة، كيف يؤثر على المستثمرين، ولماذا يعتبره علماء السلوك المالي أحد أكبر العقبات في طريق بناء محفظة عقلانية.
ما هو التحيّز للخسارة (Loss Aversion)؟
التعريف والنشأة عبر Daniel Kahneman وAmos Tversky
ظهر مفهوم Loss Aversion ضمن أبحاث عالمي النفس السلوكي دانيال كانيمان وآموس تفيرسكي في إطار نظرية الاحتمالات (Prospect Theory)، وهي نظرية حصل كانيمان بسببها على جائزة نوبل في الاقتصاد.
وفقًا لهذه النظرية، فإن الناس:
يكرهون الخسارة أكثر مما يحبّون المكسب بنفس القيمة.
أي أن الألم النفسي الناتج عن خسارة 100 دولار أقوى من السعادة الناتجة عن ربح 100 دولار.
لماذا الخسارة “تؤلم” أكثر من المكسب؟
العقل البشري لا يتعامل مع الربح والخسارة كمجرد أرقام:
- الخسارة تُفسَّر كفشل أو تراجع في الأداء.
- بينما المكسب يُرى أحيانًا كأمر متوقّع أو محايد.
- كذلك، يتفاعل الدماغ مع الخسارة بشكل عاطفي أقوى، وهذا ما يجعل المستثمرين يتخذون قرارات دفاعية مفرطة.
وقد أظهرت التجارب أن الإنسان يحتاج إلى ربح يعادل ضعف قيمة الخسارة حتى يشعر بالارتياح.
كيف يتجلّى التحيّز للخسارة في سلوك المستثمرين؟
التحيّز للخسارة لا يظهر بشكل نظري فقط، بل يُترجم إلى قرارات استثمارية يومية تؤدي أحيانًا إلى نتائج عكسية. فيما يلي أبرز السلوكيات التي تعكس هذا التحيّز عند المستثمرين:
التمسّك بالأسهم الخاسرة
- يحتفظ المستثمر بالسهم رغم تراجعه بنسبة كبيرة، أملًا في أن يعود إلى سعر الشراء.
- يرفض بيع السهم لتجنّب “تحقيق الخسارة فعليًا”، مع أن بيعه قد يُتيح له فرصًا أفضل.
هذا السلوك يُعرف بـ**”Effect of Disposition”** — حيث يُفضّل الفرد الاحتفاظ بالخسارة بدلًا من مواجهتها.
البيع المبكر للأرباح وتجنّب المخاطر المبررة
- عند ربح 5% مثلًا، يسارع المستثمر للبيع خوفًا من فقدان هذا المكسب، حتى لو كانت المؤشرات تدعو لمزيد من الصعود.
- يُفضّل المكاسب الصغيرة السريعة على استراتيجيات طويلة الأمد أكثر ربحية.
هذا النمط يُنتج محافظ غير متوازنة: ممتلئة بأسهم ضعيفة وخالية من الأسهم القوية.
أثر التحيّز في التقلبات والأسواق (سلوك جماعي)
- عند حدوث هبوط عام في السوق، يُصاب المستثمرون بحالة “ذعر”، ويبدأ البيع العشوائي بهدف تقليل الخسارة بأي ثمن.
- هذا يؤدي إلى تفاقم الانخفاضات في الأسواق، وهي ظاهرة تُعرف باسم “البيع بدافع الخوف” (Panic Selling).
التحيّز للخسارة هنا لا يضر المستثمر وحده، بل يؤثر على السوق ككل من خلال السلوك الجمعي المتحيّز.
الأسباب النفسية والبيولوجية وراء التحيّز للخسارة
لماذا نتأثر بالخسارة أكثر من الربح؟ هل السبب فقط نفسي؟ أم أن هناك جذورًا أعمق داخل الدماغ البشري؟ تشير الدراسات الحديثة إلى أن التحيّز للخسارة له جذور نفسية وبيولوجية تجعل تأثيره قويًا وعابرًا للثقافات.
الأُسُس النفسية: الخوف من الفقدان والشعور بالفشل
- الخسارة ترتبط نفسيًا بـ الإحساس بالتهديد، وهو محفّز بدائي للبقاء.
- الإنسان يرى المكسب “كإضافة”، لكنه يرى الخسارة “كخصم من الأصل”، ما يجعلها مؤلمة أكثر نفسيًا.
- كما أن الفشل المالي يُفسّر في الثقافة المجتمعية كـ قصور في المهارة أو التقدير، ما يولّد شعورًا بالعار أو الإحباط.
كل هذه المشاعر تجعل المستثمر يرفض الاعتراف بالخسارة، ويفضّل تأجيلها نفسيًا، حتى على حساب القرار الصحيح.
الجوانب البيولوجية/العصبية
دراسات في علوم الأعصاب أظهرت أن:
- الخسارة تُحفّز مناطق في الدماغ ترتبط بالألم الجسدي الفعلي، مثل القشرة الحزامية الأمامية.
- مناطق المكافأة (مثل النواة المتكئة) لا تُضيء بنفس القوة عند الربح الصغير، مقارنة بمدى نشاط مناطق “الألم” عند الخسارة.
هذه الفروقات تُفسر لماذا يُبالغ المستثمر أحيانًا في رد فعله تجاه خسارة صغيرة، ويتجاهل مكاسب مشابهة.
كيف يمكن للمستثمر التغلب على التحيّز للخسارة؟
رغم أن التحيّز للخسارة جزء من الطبيعة البشرية، إلا أن المستثمر الواعي يمكنه تدريب نفسه على كبحه أو تقليله، من خلال أدوات واستراتيجيات عملية تهدف إلى تعزيز التفكير العقلاني والانضباط السلوكي.
استراتيجيات عملية:
- وضع خطة استثمار واضحة
قراراتك يجب أن تكون مبنية على أهداف طويلة المدى، وليست استجابة آنية للخوف أو الجشع. - الالتزام بمبدأ وقف الخسارة (Stop Loss)
استخدم أوامر وقف الخسارة لتقليل الأثر النفسي للخسائر، وتحويل القرار إلى أمر فني غير عاطفي. يمكنك مراجعة مقال وقف الخسارة لمزيد من التوضيح حول كيفية استخدامه بفعالية. - تنويع المحفظة
لا تضع كل استثماراتك في أصل واحد. التنويع يُقلل الضغط النفسي عند تراجع أحد الأصول، ويساعدك على مقاومة ردود الفعل المبالغ فيها. - مراجعة الأداء دوريًا لا لحظيًا
تقييم شهري أو ربع سنوي يمنحك منظورًا هادئًا، أفضل من المتابعة اليومية المرهقة والتي تُعزّز الانحيازات.
أدوات تقنية وسلوكية:
- التصوّر المسبق للخسائر: تدرّب ذهنيًا على احتمال حدوث خسائر، فهذا يُضعف الصدمة عند حدوثها فعليًا.
- استخدام جداول لتوثيق القرارات: سجّل لماذا اشتريت أو بعت، وراجع القرار بعد شهر أو أكثر. هذا يُكشف لك متى كنت متحيزًا.
- فصل الحسابات: خصص حسابًا للتداول وحسابًا للاستثمار طويل الأجل لتفصل بين الأساليب والتوقعات.
التحيّز لا يُلغى، لكنه يُدار بوعي واستراتيجية.
تطبيقات وتوصيات للمستثمر العربي
في السياق العربي، يظهر التحيّز للخسارة بوضوح في تصرفات المستثمرين الأفراد، سواء في الأسواق الخليجية أو المحلية، نتيجة لتداخل العوامل النفسية، والثقافية، وقلة الوعي المالي المنهجي.
أمثلة واقعية من الأسواق العربية
- في أوقات الانخفاضات المؤقتة مثل التي شهدها سوق الأسهم السعودي في 2020 و2022، فضّل الكثير من المستثمرين الأفراد الاحتفاظ بالأسهم الخاسرة، ورفضوا البيع، رغم أن بعض الأسهم لم تتعافَ أبدًا.
- في المقابل، باع بعضهم أسهمًا رابحة مثل أسهم الطاقة أو المصارف فور تحقيق ربح بسيط (5–7%) خوفًا من انقلاب الاتجاه.
هذه التصرفات تعكس بوضوح سلوك “الخوف من الفقد” بدلًا من التحليل الهادئ المبني على الأداء المتوقع أو القيمة الجوهرية.
قائمة فحص: هل أنت متحيّز للخسارة كمستثمر؟
استخدم هذه القائمة لتقييم نفسك:
- هل تحتفظ بسهم خاسر فقط لأنك “لا تريد الاعتراف بالخسارة”؟
- هل تشعر براحة أكبر عندما تبيع السهم الرابح بسرعة لتأمين الربح؟
- هل تشعر بالندم المبالغ فيه على قرارات سابقة خسرت فيها؟
- هل ترفض المخاطرة حتى في الفرص المدروسة بسبب تجارب سابقة؟
- هل تقيّم أداءك بناءً على “عدم الخسارة” أكثر من “تحقيق الأهداف”؟
إن أجبت بـ”نعم” على ثلاث أو أكثر من هذه الأسئلة، فأنت غالبًا متأثر بـالتحيّز للخسارة وتحتاج إلى مراجعة أسلوبك الاستثماري بموضوعية.
الخلاصة: الوعي هو خط الدفاع الأول
التحيّز للخسارة (Loss Aversion) هو جزء من الطبيعة البشرية، لكنه قد يتحوّل إلى عدو صامت يقود المستثمر نحو قرارات غير عقلانية.
من خلال فهم هذا التحيّز، وتعلّم كيفية رصده وإدارته، يستطيع المستثمر أن يطوّر استراتيجية أكثر اتزانًا، تقوم على التحليل لا الانفعال.
لا يمكن إلغاء التحيزات السلوكية تمامًا، لكن يمكن تقليل أثرها عبر المعرفة، التخطيط، والانضباط الذاتي.
الأسئلة الشائعة (FAQ)
1. هل التحيّز للخسارة يؤثر فقط على الأفراد الجدد في الاستثمار؟
لا، هذا التحيّز يصيب الجميع، بما فيهم المستثمرين المحترفين. الفرق أن المحترفين يمتلكون أدوات للتحكّم فيه، بينما الأفراد قد يقعون فيه دون وعي.
2. ما الفرق بين التحيّز للخسارة وسلوك الخوف الطبيعي من المخاطر؟
الخوف من المخاطر سلوك منطقي أحيانًا، أما التحيّز للخسارة فهو رد فعل مبالغ فيه يجعل المستثمر يتجنّب حتى المخاطر المحسوبة، أو يرفض الاعتراف بالخسارة الواقعة.
3. هل يمكن علاج التحيّز للخسارة بشكل نهائي؟
لا يمكن “علاجه” بمعناه الحرفي، لأنه مرتبط بالتركيب النفسي والعصبي، لكن يمكن إدارته بفعالية من خلال:
- التدريب الذهني
- القواعد الانضباطية
- التقييم المنهجي
- والتخطيط المُسبق.
4. هل هناك أدوات تساعد على الحد من تأثير هذا التحيّز؟
نعم، مثل:
- أوامر وقف الخسارة
- التنويع
- مراجعة الأداء
- استخدام الجداول لتوثيق القرارات
- وحتى التداول الآلي الذي يُلغي أثر العاطفة.
